السخرية فن برع فيه المصريون، لكن خطاً رفيعاً ظل فاصلاً لديهم ما بين فن السخرية، وبلطجة الردح، السخرية والكوميديا أصعب الفنون، أما السب والقذف والردح، فهو أسهل شىء، لا يتطلب إلا بعض البجاحة وطول اللسان وغلظة الحس، وسقم الوجدان، السخرية فن عقل ويخاطب العقل، فن ذكى، فلا يوجد غبى يفهم السخرية، على العكس الشتيمة والردح لا يتطلبان مستوى ذكاء معيناً، بل غالباً لا يمارسها إلا أنصاف وأرباع الأذكياء، ما أقرأه الآن تحت بند فن السخرية ينتمى إلى النوع الثانى من الردح والشتيمة وخناقات الحوارى، ما زلت أحن إلى سخرية الصحفى الجميل محمد عفيفى أحد أفراد الحرافيش، والصديق الصدوق لنجيب محفوظ والذى أطلق عليه لقب «رجل الساعة»، كانت سخرية شيك، سخرية تنم عن ثقافة واسعة، ولغة رفيعة، وشجن حساس وعمق فلسفى، لم يكن ساخراً هروباً من الكتابة الجادة، أو لأنه ضعيف فيها لا يجيدها، ولكن لأن بوصلته الإبداعية تميل ناحية هذه الكتابة، يسكنها وتسكنه، أحن إلى سخرية محمود السعدنى اللاذعة الرائعة المغموسة فى طين المحروسة المنتمية إلى أولاد البلد، وهذا مصطلح مختلف عن العشوائيين، فابن البلد شهم لا شمام كله، جدع وليس ندلاً، يفهم الجمال لكنه يكره التحرش، يحلم ببنت البلد، لكنه يخاف على بنت حتته، السعدنى تاريخ وتجربة عريضة فى الزمان والمكان، لا يجب مقارنته بمن تجربته تنحصر فى المسافة ما بين بيته وجرناله، أحن إلى سخرية كامل الشناوى البليغة غير المثقلة بزخارف اللغة، ولكنها مضمخة بعبير الأناقة والسمو والرفعة، أحن إلى سخرية المازنى المتفردة الموجعة، والذى برغم صداقته للعقاد الذى تظنه قد حفر من جرانيت، إلا إنه كان يحمل روح سخرية وإطلالة ابتسامة تشوبها لمسة شجن، أحن إلى سخرية أحمد بهجت المشوبة بنورانية صوفية، أدعو الله أن يطيل عمر أستاذنا أحمد رجب، جاحظ مصر المعاصر وقلمها المشرط، وألمها الضاحك، وجبرتيها الساخر، أترحم على محمد مستجاب، الفنان الصعيدى الحاد كنصل السكين الرقيق كملمس الحرير، أشتاق إلى زمن السخرية الشيك، وليس زمن المسخرة والقباحة.